الحمدُ لله الرحيمِ الرحمن، الكريمِ المنَّان، ذي الفضْل والرحمة والإحسان، والصلاةُ والسَّلام
على سيِّد ولد آدمَ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
أمَّا بعد:
فقد أظلَّتْنا في الآونةِ الأخيرةِ سُحبٌ خبيثة، وأنفْسٌ خسيسة، تُسمَّى بأسمائنا، وتتكلَّم بألسنتنا،
أصمَّت آذاننا بمقالة تنوء الأطوادُ بحَمْلها، وتَخِرُّ الجبال هدًّا لعِظم جُرْمها، وتكاد السموات
يتفطرْنَ لفداحة خَطْبها.
تِلْكم الألسن الحاقِدة، التي زَيَّن لها الشيطانُ عملَها، فصدَّها عن السبيل، فصارتْ مِنَ الذين لا
يَهْتدون، وسوَّل لها الشيطانُ وأمْلَى لها، وجرَّأها على أطهرِ عِرْض، فخاضَتْ فيه، وسوَّدت
صحيفتَها - السوداء أصالةً - بالنيل ممَّن برَّأها الملِك الجليل مِن فوق سبع سموات، فصار
القائلُ بذلك ممَّن كذَّب بالكتاب، وبما أَرْسل اللهُ به الرُّسُل.
إلاَّ أنَّ السماء لن تطولَها يدٌ شلاَّء، ولن يضيرَ السَّحابَ نبحُ الكلاب، فالخائض الحاقِد مِن جند
إبليس وحِزبه، نازع بمقالته الآثِمة رئاسةَ ابن أُبيِّ بن سلول للمنافقين، وتربعه على حشِّ
النفاق، والمتكلَّم فيها الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق؛ أُمُّنا أمُّ المؤمنين، وزوج خير النبيِّين، وحبيبة
رسولِ ربِّ العالمين، إنْ لم يكن مِن مناقبها إلا أنْ أنزل الله - جلَّ ثناؤُه - في شأنها قرآنًا
يَتعبَّد المسلمون بتلاوته إلى يوم القيامة، لكفَى بها منقبةً وفضيلةً ومأثرة، غير أنَّ مآثِرَها -
رضي الله عنها - يجلُّ عنها الوصْف، وفضائلها يقصر عنها البيان.
ولقدْ أُعطيتِ الصِّدِّيقة عائشة - رضي الله عنها - ما لم تُعْطَه امرأة بعدَ مريم ابنة عمران:
• فلقدْ نزل جبريلُ بصورتها للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حريرةٍ خضراء، وقال: هذه
زوجتُك.
• ولقد تزوَّجها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بِكرًا، ولم يتزوَّج بكرًا غيرها.
• وقُبِض النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بيْتها، وهو بين سَحْرها ونحْرها، ورأسه في
حجْرها، وقبْره في بيتها.
• وإنَّها لابنةُ خليفته وصديقه، وثانيه في الهِجرة والغار.
• ولقد خُلقت طيبة عند طيب.
• ولقد حَفَّتِ الملائكة بيتها.
• ولقد نَزَل عذرُها من السماء، ووُعِدتْ مغفرة ورِزقًا كريمًا.
بل إنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - منَحَها وِسامًا فريدًا حين قال: ((كَمُل من الرجال
كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وفضلُ عائشة على
النِّساء كفَضْل الثريد على سائر الطعام))؛ البخاري.
وفي ذات السلاسل سألَ عمرُو بن العاص رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: مَن أحبُّ
الناس إليك؟ قال: ((عائشة))، قال: مِنَ الرجال؟ قال: ((أبوها)).
إنَّها عائشةُ حافظةُ النِّساء، فأكثرُ أحاديثِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الخاصَّة في
بيته؛ مِن يقظة ومنام، وعبادة وذكْر، عن عائشة، فالطاعِن في عائشة طاعِن في دِين الله
وشَرْعه.
إنها عائشة فقيهةُ النِّساء؛ قال الزهري: لو جُمِع علم عائشة إلى عِلم جميعِ أزواج النبيِّ -
صلَّى الله عليه وسلَّم - وجميع النِّساء، كان عِلم عائشة أكبر.
بل إنَّها فقيهة الرِّجال؛ قال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -: ما أشْكَل علينا -
أصحابَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حديثٌ قطُّ، فسألنا عائشة عنه، إلاَّ وجدْنا عندها
منه عِلمًا؛ "صفة الصفوة".
وعن مسروق قال: نحْلِف بالله، لقدْ رأينا الأكابرَ من أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - يسألون عائشةَ عنِ الفرائض؛ (أي: المواريث).
إنها عائشة الصَّوَّامة القوَّامة، الزاهدة المنفقة، أرْسل إليها معاويةُ - رضي الله عنه -
سبعين ألْف درهم، فقالتْ لجاريتها: اقسميها بيْن آل فلان وآل فلان، حتى نَفِدت، فقالت
لجاريتها: أعدِّي لنا طعامًا – وكانت صائمةً - فقالت الجارية: ما عندنا طعام، فلولا أبقيتِ لنا
من المال شيئًا تُفطرين عليه؟! فقالت: لو ذَكَّرتِني لفعلتُ.
إنها عائشةُ المبارَكة، فحين فقدَتْ عِقدَها نزَل رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالجيش
يَلْتَمِسون عقدَها، وليس معهم ماء، وليسوا على ماء، فغَضِب الصِّدِّيق ونهَرَها: أمِنْ أجل عِقْد
تحبسين الجيش وليس معهم ماء؟! فنزلت بِبَركتها آية التيمُّم، فقال لها أُسَيْدُ بنُ حُضَيْر -
رضي الله عنه -: ما نَزَل بكِ أمرٌ إلاَّ جعَل الله لك منه مَخْرجًا، وللمسلمين فيه بركة، وقال: ما
هي بأوَّل بركتكم يا آلَ أبي بكر.
إنها عائشةُ حبيبة رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين خاصمتْه النِّساء فيها، وأرْسلْنَ
إليه فاطمةَ تُكلِّمه في ذلك، فقال لها: ((فأحبِّي هذه)) وأشار إلى عائشة.
وما أَوْلى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحدًا اهتمامَه مثلَما أولاها، فحين وقعتْ إحدى
نسائِه فيها، قال لها: ((لا تُؤْذيني في عائشة؛ فإنَّ الوحي ما نَزَل عليَّ في لحافِ امرأةٍ إلا
عائشة)).
ولَمَّا قَفَل من إحدى غزواته أمَر الجيشَ فتقدَّم، فسابقها فسبقتْه، فلمَّا مرَّ زمن وبدنتْ، أمَرَ
الجيشَ فتقدَّم، فسابقها فسبَقَها، وقال: ((هذه بتلك)).
حتى في مَرَض وفاته - صلَّى الله عليه وسلَّم - طَفِق يقول: ((أيْن أنا غدًا؟))؛ يُريد أن
يُمرَّض في بيت عائشة، فلمَّا وصل بيتها سَكَن، وكان آخِر عهدها به أنِ اختلط ريقُه برِيقها
حين ليَّنتْ له السواك برِيقها، فلمَّا استَنَّ به رفع يده، وقُبِض - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو
في حجْرها بيْن سحْرها ونحْرها.
لما اشْتَكتْ دخل عليها ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - فقال: ((تَقْدَمين على فَرَط صِدق)).
فرضِي الله عن عائشة وأرْضاها، وسلامٌ عليها في الصالحين، وسلامٌ عليها في المتَّقين،
وسلامٌ عليها في الصِّدِّيقين، وخاب وخسِر عبدٌ لم يعرفْ لها قدرها، وينزلها منزلتها.
وبعُد:
هلَك أناسٌ أطلقوا لسانَهم فيها، وخاضوا في سِيرتها، فكذَّبوا بالكتاب وبما أَرْسَل اللهُ به
رُسلَه، وردُّوا ما أجْمع عليه أهلُ العلم والإيمان مِن سلف الأمَّة وخَلَفها في فضْل عائشة -
رضي الله عنها - فخلعوا بذلك رِبْقةَ الإسلام عن أنفسهم، وباؤوا بغضب على غضب، ?
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ? [البقرة: 90]، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.