نشأت رقية رضي الله عنهاولدت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم
الهاشمية، وأمها خديجة أم المؤمنين، ونشأت قبل
بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد استمدت
رقية رضي الله عنها كثيراً من شمائل أمها،
وتمثلتها قولاً وفعلاً في حياتها من أول يوم تنفس
فيِه صبح الإسلام، إلى أن كانت رحلتها الأخيرة
إلى الله عز وجل. وسيرة حياة السيدة رقية رضي
الله عنها، تستوفي كل الكنوز الغنية بمكارم
الفضائل ونفحات الإيمان، وهذه الكنوز التي تغني
المرء عن الدراهم والدنانير، بل أموال الدنيا
كلها، فسيرة السيدة رقية تجعل النفوس تحلق في
أجواء طيبة، لا يستطيع أصحاب الأموال والدنيا
الوصول إليها، ولو صرفوا الدنيا وما فيها، لأن
من يتذوق طعم حياة لاالأبرار، يترفع عن الحياة
التي لا تعرف إلا الدرهم والدينار.
زواجها رضي الله عنها من عُتبةلم يمض على زواج زينب الكبرى غير وقت قصير، إلا وطرق باب خديجة ومحمد، وفد من آل عبد المطلب، جاء يخطب رقية وأختها التي تصغرها قليلاً لشابين من أبناء الأعمام وهما (عُتبة وعُتيبة) ولدا أبي لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأحست رقية وأختها انقباضاً لدى أمهما خديجة،
فالأم تعرف من تكون أم الخاطبين زوجة أبي
لهب، ولعل كل بيوت مكة تعرف من هي أم جميل
بنت حرب ذات القلب القاسي والطبع الشرس
واللسان الحاد. ولقد أشفقت الأم على ابنتيها من
معاشرة أم جميل، لكنها خشيت اللسان السليط الذي
سينطلق متحدثاً بما شاء من حقد وافتراء إن لم تتم
الموافقة على الخطوبة والزواج، ولم تشأ خديجة
أيضاً أن تعكر على زوجها طمأنينته وهدوءه
بمخاوفها من زوجة أبي لهب وتمت الموافقة،
وبارك محمد ابنتيه، وأعقب ذلك فرحة العرس
والزفاف وانتقلت العروسان في حراسة الله إلى
بيت آخر وجو جديد.
دعوة الرسول صلى الله عليه و سلم الناس إلى الإسلامودخلت رقية مع أختها أم كلثوم بيت العم، ولكن لم
يكن مكوثهما هناك طويلاً فما كاد رسولنا محمد
صلى الله عليه و سلم يتلقى رسالة ربه، ويدعو
إلى الدين الجديد، وراح سيدنا رسول الله، يدعو
إلى الإسلام سراً، فاستجاب لله عز وجل من شاء
من الرجال ومن النساء والولدان. ويبدو أن عمات
رسول الله قد نصحنه صلى الله عليه و سلم ألا
يدعو عمه أبا لهب لكيلا تثور هائجته، فلا يدري
بما يتكلم، وحتى لا تنفث زوجته أم جميل سمومها
في بنات النبي فقد كان أبو لهب وأولاده ألعوبة
تتحكم فيهم أم جميل التي تنهش الغيرة قلبها إذا ما
أصاب غيرها خير. وقد قام رسول الله بدعوة
الناس إلى الإسلام وعندما علم أبو لهب بذلك أخذ
يضحك ويسخر من رسول الله ثم رجع إلى البيت،
وراح يروي لامرأته الحاقدة ما كان من أمر
محمد ابن أخيه الذي أخبرهم أنه رسول الله إليهم؛
ليخرجهم من الظُلمات إلى النور وصراط العزيز
الحميد، وشاركت أم جميل زوجها في سخريته
وهزئه.
ولعب شيطان الحقد في نفسها، وأحست برغبة
عنيفة في داخلها للانتقام من أقرب الناس إليها من
رقية وأم كلثوم رضي الله عنهما، وإن كان هذا
الانتقام سيؤذي ولديها، ولكنها مادامت ستفرغ كل
حقد ممكن لديها، وتقيء كل عصارة كيدها في
جوانب نفسها، فلا مانع من ذلك حتى تحطم
بزعمها الدعوة المحمدية، وسلكت ضد سيدنا
رسول الله أبشع السبل في اضطهاده، وزادت على
ذلك أن أرسلت إلى أصهار رسول الله تطلب منهم
مفارقة بنات الرسول، أما أبو العاص فرفض
طلبهم مؤثرا ومفضلاً ً صاحبته زينب على نساء
قريش جميعاً، وقد أمن في نهاية المطاف وجمع
الله شمل الأحبة. وأما عُتبة وعُتيبة فلقد تكفلت أم
جميل بالأمر دون أن تحتاج لطلب من أحد.
وطفقت أم جميل تنفث سمومها في كل مكان تكون
فيه، ولم تكتف بكشف خبيئة نفسها الخبيثة، ولكنها
راحت تزين للناس مقاومة الدعوة، واجتثاث
أصولها؛لأنها تفرق بين المرء وأخيه، وأمه وأبيه،
وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه. ولما انتهت
من طوافها، وهي تزرع بذور الفتنة، وتبغي نشر
الحقد والفساد، راحت تجمع الحطب لتضعه في
طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤذيه،
وفي هذا دليل على بخلها الذي جبلت عليه.
لاولكن القرآن الكريم تنزل على الحبيب المصطفى
صلى الله عليه و سلم ندياً رطباً، ونزل القرآن
عليه يشير إلى المصير المشؤوم لأم جميل بنت
حرب، وزوجها المشؤوم أبي لهب، قال الله
تعالى: )تبت يدا أبي لهب وتب *ما أغني عنه ماله
وما كسب* سيصلى نارا ذات لهب* وامرأته حمالة
الحطب * في جيدها حبلاً من مسد(.
(المسد:1-5).
وكانت رقية وأم كلثوم في كنف ابني عمهما، لما
نزلت سورة المسد،وذاعت في الدنيا بأسرها،
ومشي بعض الناس بها إلى أبي لهب وأم جميل،
اربدَّ وجه كل واحد منهما، واستبد بها الغضب
والحنق، ثم أرسلا ولديهما عُتبة وعُتيبة وقالا لهما:
إنَّ محمداً قد سبهما، ثم التف أبو لهب إلى ولده
عتبة وقال في غضب: رأسي من رأسك حرام إن
لم تطلق ابنة محمد؛ فطلقها قبل أن يدخل بها.
وأما عُتيبة، فقد استسلم لثورة الغضب وقال في
ثورة واضطراب: لآتين محمداً فلأوذينَّه في ربه.
وانطلق عتيبة بن أبي لهب إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فشتمه ورد عليه ابنته وطلقها، فقال
رسول الله"اللهم سلط عليه كلباً من كلابك"
واستجابت دعوة الرسول صلى الله عليه و سلم،
فأكل الأسد عُتيبة في إحدى أسفاره إلى الشام.
ولم يكفها أن ردت رقية وأم كلثوم مطلقتين، بل
خرجت ومعها زوجها أبو لهب (الذي شذ عن
الأعمام وآل هاشم، فقد جمع بين الكفر وعداوة
ابن أخيه)، وسارت وإياه يشتمان محمداً، ويؤذيانه
ويؤلبان الناس ضده، وقد صبر الرسول صلى الله
عليه و سلم على أذاهم. وكذلك فعلت رقية وأختها،
صبرتا مع أبيهما، وهما اللتان تعودتا أن تتجملا
بالصبر قبل طلاقهما، لما كانت تقوم به أم جميل
من رصد حركاتهما ومحاسبتهما على النظرة
والهمسة واللفتة.
زواج رقية من عثمان:شاءت قدرة الله لرقية أن ترزق بعد صبرها زوجاً
صالحاً كريماً من النفر الثمانية الذين سبقوا إلى
الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ذلك هو
(عثمان بن عفان) صاحب النسب العريق،
والطلعة البهية، والمال الموفور، والخلق الكريم.
وعثمان بن عفان أحد فتيان قريش مالاً، وجمالاً،
وعزاً، ومنعةً، تصافح سمعه همسات دافئة تدعو
إلى عبادة العليم الخبير الله رب العالمين. والذي
أعزه الله في الإسلام سبقاً وبذلاً وتضحيةً،
وأكرمه بما يقدم عليه من شرف المصاهرة، وما
كان الرسول الكريم ليبخل على صحابي مثل
عثمان بمصاهرته، وسرعان ما استشار ابنته، ففهم
منها الموافقة عن حب وكرامة، وتم لعثمان نقل
عروسه إلى بيته، وهو يعلم أن قريشاً لن تشاركه
فرحته، وسوف تغضب عليه أشد الغضب. ولكن
الإيمان يفديه عثمان بالقلب ويسأل ربه القبول.
ودخلت رقية بيت الزوج العزيز، وهي تدرك أنها
ستشاركه دعوته وصبره، وأن سبلاً صعبة سوف
تسلكها معه دون شك إلى أن يتم النصر لأبيها
وأتباعه. وسعدت رقية رضي الله عنها بهذا
الزواج من التقي النقي عثمان بن عفان رضي الله
عنه، وولدت رقية غلاماً من عثمان فسماه عبد
الله، واكتنى به.
رقية والهجرة إلى الحبشة: ودارت الأيام لكي تختبر صدق المؤمنين، وتشهد
أن أتباع محمد قد تحملوا الكثير من أذى
المشركين، كان المؤمنون وفي مقدمتهم رقية
وعثمان رضي الله عنهم في كرب عظيم، فكفار
قريش ينزلون بهم صنوف العذاب، وألوان البلاء
والنقمة،)وما نقموا بهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز
الحميد( (البروج:8).ولم يكن رسول الله بقادر
على إنقاذ المسلمين مما يلاقونه من البلاء المبين،
وجاءه عثمان وابنته رقية يشكوان مما يقاسيان من
فجرة الكافرين، ويقرران أنهما قد ضاقا
باضطهاد قريش وأذاهم.
وجاء نفر آخرون ممن آمن من المسلمين، وشكوا
إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ما يجدون
من أذى قريش، ومن أذى أبي جهل زعيم الفجار.
ثم أشار النبي عليهم بأن يخرجوا إلى الحبشة، إذ
يحكمها ملك رفيق لا يظلم عنده أحد، ومن ثم
يجعل الله للمسلمين فرجاً مما هم عليه الآن.
وأخذت رقية وعثمان رضي الله عنهما يعدان ما
يلزم للهجرة، وترك الوطن الأم مكة أم القرى.
ويكون عثمان ورقية أول من هاجر على قرب
عهدهما بالزواج، ونظرت رقية مع زوجها نظرة
وداع على البلد الحبيب. وتمالكت دمعها قليلاً، ثم
صعب ذلك عليها، فبكت وهي تعانق أباها وأمها
وأخواتها الثلاث زينب وأم كلثوم والصغيرة
فاطمة، ثم سارت راحلتها مع تسعة من
المهاجرين، مفارقة الأهل والأحباب، وعثمان هو
أول من هاجر بأهله، ثم توافدت بعد ذلك بعض
العزاء والمواساة، لكنها ظلت أبداً تنزع إلى مكة
وتحن إلى من تركتهم بها، وظل سمعها مرهفاً
يتلهف إلى أنباء أبيها الرسول صلى الله عليه و
سلم، وصحبة الكرام. ولقد أثرت شدة الشوق
والحنين على صحتها، فأسقطت جنينها الأول،
وخيف عليها من فرط الضعف والإعياء، ولعل
مما خفف عنها الأزمة الحرجة رعاية زوجها
وحبة وعطف المهاجرين وعنايتهم.
وانطلق المهاجرون نحو الحبشة تتقدمهم رقية
وعثمان، حتى دخلوا على النجاشي، فأكرم
وفادتهم، وأحسن مثواهم، فكانوا في خير جوار،لا
يؤذيهم أحد ويقيمون شعائر دينهم في أمن وأمان
وسلام. وكانت رقية رضي الله عنها في شوق
واشتياق إلى أبيها رسول الله وأمها خديجة، ولكن
المسافة بعيدة، وإن كانت الأرواح لتلتقي في
الأحلام.
وجاء من أقصى مكة رجل من أصحاب رسول
الله، فاجتمع به المسلمون في الحبشة، وأصاخوا
إليه أسماعهم حيث راح يقص عليهم خبراً أثلج
صدورهم، خبر إسلام حمزة بن عبد المطلب
وعمر بن الخطاب، وكيف أن الله عز وجل قد أعز
بهما الإسلام. واستبشر المهاجرون بإسلام حمزة
وعمر، فخرجوا راجعين، وقلوبهم تخفق بالأمل
والرجاء، وخصوصاً سيدة نساء المهاجرين رقية
بنت رسول الله التي تعلق فؤادها وأفئدة المؤمنين
بنبي الله محمد صلى الله عليه و سلم.