لقد قرأت البارحة كتبا في الرقائق ، فشدتني إلى ساعات متأخرة من الليل ،
فروت أغصانيَ اليابسة ، و أفاضت عيوني الجامدة ، لا لأن قلبي رقيق ، و لكن
الخوف من الفوت ، و عدم اللحاق بساقة الأحباب ، جعلاني أحترق من شدة
الحسرة و االغياب ، فأبيت إلا أن أُشارك إخواني ما قرأت ، و خاصة باب
زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم ، وطلب زيارتهم والدعاء منهم
وزيارة المواضع الفاضلة ، و باب في فضل البكاء من خشية الله تعالى وشوقاً
إليه ، و يستحب الرجوع إليهما لترقيق القلوب في كتاب رياض الصالحين .. و
صفة الصفوة ، و إيقاظ الهمم ..
وكل ما ورد في فضل البكاء من خشية الله ؛ فهو إظهار لفضيلة الخشية ، فإن
البكاء ثمرة الخشية ، فقد قال تعالى: " فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً " .
وقال تعالى " يبكون ويزيدهم خشوعاً " .
وقال عز وجل " أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم
سامدون " . و الآيات في هذا الباب كثيرة .
وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهيا إليها، بكت، فقالا لها: ما
يبكيك أما تعلمين أن ما عند الله خيرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت:
إني لا أبكي أني لا أعلم أن ما عند الله تعالى خيرٌ لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا
يبكيان معها . رواه مسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: " لا يلج النار أحد بكى من خشية الله تعالى حتى يعود
اللبن في الضرع ، ، ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم " . رواه
الترمذي و قال حيث حسن صحيح .
وقال صلى الله عليه وسلم: " سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله " وذكر منهم "
رجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه " .
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: من استطاع أن يبكي فليبك ومن لم يستطع
فليتباك. وكان محمد بن المنكدر رحمه الله إذا بكى مسح وجهه ولحيته بدموعه
ويقول: بلغني أن النار لا تأكل موضعاً مسته الدموع.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي
من أن أتصدق بألف دينار.
و كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات:
أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم ... وكيف يطيق النوم حيران هائم
فلو كنت يقظان الغداة لخرقت ... محاجر عينيك الدموع السواجم
بلى أصبحت في النوم الطويل وقد دنت... إليك أمور مفظعات عظائم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
يغرك ما يبلى وتشغل بالهوى ... كما غر باللذات في النوم حالم
وتشغل فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
قال منصور بن عمار كما جاء في صفة الصفوة : تكلمت في مجلس فيه سفيان
بن عيينة وفضيل بن عياض وعبد الله بن المبارك. فأما سفيان بن عيينة
فتغرغرت عيناه ثم نشفتا من الدموع، وأما ابن المبارك فسالت دموعه، وأما
الفضيل فانتحب، فلما قام فضيل وابن المبارك قلت لسفيان: يا أبا محمد ما منعك
أن يجيء منك ما جاء من صاحبك. قال: هذا أكمد للحزن، إن الدمعة إذا خرجت
استراح القلب . و كان لأبي بكر بن أبي مريم في خديه مسلكان من الدموع